الثلاثاء، 18 يونيو 2013

حضورك ذو السبعِ أيام

و في هذا الصَباح، بدأت أدركُ كل ما حولي كما هو فعلًا، دون ضوءٍ دخيل أو خيالٌ مُزيّف يغررني للإيمان بكونِه قد يأتي و يلمسَ هذهِ الأرض، رأيت شهرَ شعبان يجلس هنا أمامي، و قد مضى على مكوثهِ سبعةُ أيام . . . يا الله، كم أعتذر منك لكوني لم أدركك الا الآن هذا العام، و لكن هذا العام قد كان مختلفًا، أشعر بأنّي قد كبرتُ فيه كثيرًا، و أن عُمري قد طار جُلٌّ من أوراقه في خريفِ هذا العام، و حتى الكتابة قد بانت لي بألوانٍ لم أعهدها.. فقط في هذا العام، التناقضُ قد بدى ظاهرًا في عينيّ أكثر مما قد يسمّى بالصلحِ و القدرةِ على تقديرِ الصحةِ في كثيرٍ من الأمور، لا أدري ان كنتَ تفهمُ ما أقوله و تعي أي حيرةٍ قد بانت فييّ الآن حين أدركتُ حضورك ذو السبعِ أيام.

أتدري، لطالما كان حضورك مُرتبطٌ برمضان، و رمضان أراهُ في عيني قمةٌ لا يعلوها أي مكانٍ في كل عام، قمةٌ تُريني كل خطوٍ خطوته، تُريني المسافات التي مضت، و تقلبِ حالي بين خطوةٍ و أخرى، تُريني الأماكن، الناس، الكلمات، الشعور و تقلباته، تُريني السّعي و النتائج، تريني الأنا متأرجحةً شمالاً و يمينًا لم تكن تدري أين يجدر بها أن تتخذ مسارًا يرشدها للغاية، تُريني الغاية التي أُدركت لربما .. أو ضاعت، رمضان يعني لي قمةٌ تُعيد لي الولادة لهذهِ الحياة، أدعوا الله بأن يبلغني ولادتي الجديدة بعد هذا العام الطويل الطويل، فإنّي يالله بحاجةٍ لها أكثر من أي عامٍ مضى، و إن ذاكرتي تحمُل الكثير مما تودّ التخلص منه، لكن ليس للأبد، فلم أعتد على التخلّي النهائي، بل إنّي قبل التخلّي عن الذكرى أراني أعودُ متمسكةً بها مرّاتٍ و مرّات.. 

هذا الصباح، رأيتُ هذهِ الورقة أولُ بقاعِ الأرضِ التي أشرقت شمسُ الله عليها، لا أخفي عليك بأن حين يراودني هذا الشعور كنتُ أشعر بالفخر بما بين يدي، و كأنني رأيتُ ابنًا لي يخوضُ أول مهامَ الحياةِ بنجاح، و لكن في هذهِ المرّه، أراها كإبنٍ خائفٍ يتمسكُ بخاصرتي بشدّه خوفًا من بُعدي عنه، خوفًا من كونهِ وحيدًا أمام ما رآه من هذه الحياة، ولكن أسعى بأن أملئ الورقة بالكلماتِ أكثر لعلّ الحُروف تُقوّي إخوتها، لعلّ شيئًا من أملٍ ينبضُ بين الواوِ و الجيمِ و العَين، لعلّ العَين ذاتها ترى شيئًا جميلًا فتدركُ حكمةً قد أطمسها تذمّرٌ لا عقلٌ فيه.

عجبًا لنا نحنُ بني الإنسان، عجبًا لعقولنا و قلوبِنا، للبحارِ التي تسكنُ فينا، لموجها المتقلّب، متلاطمٌ في فجر يومٍ و ساكنٌ بلا حراكٍ في ليله، عجبًا لمضينا دون علم، من الضعفِ المُستكينِ الذي قد خُلقنا منه جميعًا، و لكن ندّعي القوة و العِلم و الفهِم، و الحقيقةُ أننا لا نعيشُ دون تدبير الله لنا، و دون اختيارهِ و اختباره، نُدرك أن لاشيء يبقى و لكن هذهِ النهاية بالتحديد نتجاهلها كثيرًا، و نرى ماهُو أدنى يسبقُ ماهو أعلى و أبقى، و نسمحُ  بذلك مرارًا، و ننسى و لكن نتذكر ما يجدر أن يقع عليه النسيان، عجبًا من عجبنا و من كوننا نرى ما نرى..
ياربّ هذا الصبَاح، ياربّ كل ما أتى معهُ و ما سيأتي، سامحني على جهلي .. سامحني. 


الثلاثاء، 4 يونيو 2013

عُبور،



أتراكَ تَدري؟ أنّي لم أعد أدركُ أيني في كل هذا الأمرِ،
و أينَ أيني حِينما كنتُ للفرحِ أصحو، و للهفة اللقاءِ أسري،
لأسقي زهرةَ الفُلِ، و لأرتبَ الرّف.. لألتمسَ تفاصيلَ عُمري،
للكلماتِ، و الأغنيات، لنصفِ قصيدةٍ يكتملُ بها نصفُ بدرِ،
أيني حينما خاضت كل عاطفةٍ في أوجِ فكري، 
أيني من ذاكَ اليومِ معك . . و من ذاك الشهرِ
أتراكَ ترى ما أرى، و تراقبُ شتات أمري؟ 
. . .  

أصحو على عَجَل، أتركُ وثيرًا صُنع من مَلل، أأمرُ النورَ بالدخول، أعدّ نفسي . . كمنْ يُعدّ حاضرًا لا صلة لهُ بأي أمسِ، و بين تناقضٍ يقضة الليلِ، و ما يغيمُ على الصبحِ من كسل، أعدّ القهوة كي تطرد ذاكَ و هذا، أمضي لأدرك من ينتظر، أسرعُ بالنزول، و زهراتٌ متسللةً على الدرجِ تتلهفُ للسلام، أو لبسمةٍ مشبعةً بالأمل، أنظر اليها، أتجاهل، أنسى السلام، فليسَ هُناك محلٌ الآن لهذا الكلام، أركبُ السيارة، ألقي نظرةً لكومة الأوراق . . مُكتملة، أقرأ الآياتِ على عَجل، شمسٌ تحترقُ، و شوارعٌ تنافسها، كومة الأنفسِ تتزايد، أصوات المحركاتِ تتعالى، و أناسٍ سيما التعبِ قد خُط بخطوطٍ عريضةٍ على وجوههم، منتظرين للضوء الاحمر بأن ينطفئ، فيستمر هذا السباق، الذي ليس ممن يخوضه يدركُ خطًا لنهايته، لا سائقُ الحافلةِ و لا ركابها، لا ذاك المتسول و لا بائع الخبز، لا هذا الصفَّ الطويل المُنتظر ليقبض ما يعيشهُ من رغيف،  و لا أنا. .  لكن أدرك أن علينا أن نمضي، و أنّا نكادُ نَصِل، و كل شيءٍ عليهِ أن يتكرر، وأنّا سنقفُ لنكمل السير على أقدامنا، ثم نتوقف مرةً أخرى أمام من هم مثلنا، لنقول ما توصلت اليه عقولنا، نقرأ الكثير مما لا نفهم، و نكررُه، لأسبابٍ كثيرةٍ غير أننا نتذكُره، و أنّا نسعى لجُلٍّ مما لا نريد لندرك شيئًا مما نريد . . . أدرُك تمامًا أن علينا أن نمضي الآن! 

التفتَ سائقُ الحافلة نحونا، انطفئ الضوء الأحمر المُنتظر، لكنْ .. لم يتحرك أيّ أحد، و السماءُ أخذت تسكب الضباب لتُمحي كُل لون،  رائحة تخطفُ الهواء من بينِ أنفاسنا، و الصوت حينَها أخرسَ كل ما كان يصرخ للتوّ، لا أكاد أدركُ لونًا، لا أكاد أدرك صوتًا يلهمني لما يحدث، و لكن مهلاً . . أكادُ أُبصر طيرًا يحلقُ في السماء!  بل انّي .. ألمحُ سربًا مُقبلٍ يطير نحونا، أتسعت الشوارعُ فعلًا؟  ليُفسح لذاك السربُ العبور؟ ليس حمامًا، و لا نوعًا من طيور! شيءٌ يبدو أني أحبهُ أكثر . . مهلًا لعلني أتذكر، أتراكَ تدري أي لونٍ كنتُ أحبه منها أكثر؟ أذكر أني لم أكن أحتاج التذكُر، كنتُ أنطقُ بكل ما ينسدل من سجيتي، أين سجيتي؟ أغابت مع كُل ما أمرت بهِ بالغياب، أأخذتها معك الى حيثُ لا أدري؟ اقتربت منّي، أراها بوضوح، فراشاتٌ بلونِ الزمرّد الذي مازلتُ أحبه، اقتربت أكثر، لكن مهلًا ،، أيجدرُ بي أن أسعد؟ أم عليّ عنها أن أبتعد؟ و اقتربت .. تكاد تلمُس وجهي، العينُ تُغمض ثم تُبصر. . . في الذّاكرة أخذتُ أبصر، آخر كلمةٍ قالتها أمي، صوتُ ضحكةِ أبي، أخي و حتى صوتَ لعبة أخي، جنون خيالاتِ أختي، إني أتذكر، كنتُ قد قلتُ سأزور جدتي، كنتُ لأقولَ "أحبكِ كثيرًا" لأمي، كنتُ لأعطي صديقةً كتابا ستحبهُ، كنتُ لأحضر شاي الياسمين و أقرأ قصيدةً عن القدسِ لأبي،  كنتُ سأعطي من الورد..
مهلًا . .  اني أرى الطفولة تَحيى في عيني، أرى عمتي تحمِلُ كيسًا من الهدايا، أرى خالي  يُمسك بيديّ لنركُض و نلعب، أرى ضوء الغرفة القديمة، أرى القِصص، أرى الفيلم الذي أعدتُ مشاهدته مرارًا، مهلًا . .  إني سأرى و لكن أكادُ ألمحُ شيئًا من ابتسامةٍ . . لك، فتحتُ عيناي،  لأرى ماذا بعدُ تلك الفراشات سوف تفعل، بعد أن جلبت لي ذاكرتي، بما ستأتي أيضًا..؟ أبصرتُ حولي، السماءَ و الأرض ، يداي .. و أنا، لم تعُد  تلك الفراشاتِ هنا . .
 و كل شيءٍ يبدو كأنه قد عاد لما كان، الحافلة قد مضت، المخبزُ أقفل، المتسوّل يبدو أنّه قد رحل مبكرًا، و القهوة، يبدو أنّها جفّت بعدما سُكبت بين يديّ ، الأوراق، ماذا حل بها .. أراها مُشتتةً في كل مكان، التفتُ الى سائق السيارة التي كان يقود بنا لعل صورتي في هذا المكانِ تتضح، لم أجد لهُ أثر . . غير علبةِ ماء، أدركتُ ماذا حَلّ بنا .. و لما تركت تلك الفراشات فسحة السماء، و لأي غايةٍ قد أتت، و ماذا أخذت، و لِما  جلبت لي ما جلبت، أدركتُ حقيقة هذا العبور . .